حكاية غير رقيقة عن الفلاح والأميرة

 هم خمسة إخوة والبطن قلابة. أحدهم لا يجد لقمة تسد جوعه. والآخر بالكاد يأكل ولكنه لا يجد الاحتياجات الأساسية الأخرى من مسكن صحى ولا تعليم لائق. أما الثالث فبالكاد لديه هذا وذاك ولكنه «على الحُرُكرُك» قد يفقد أى منهم فى أى لحظة إذا ما تعرض إلى أى من منقلبات الحياة، ليلحق بأخويه.

أما الرابع والخامس فيتقاسمان معظم ثروة العائلة وإن بشكل غير عادل. فأحدهم يفرض سطوته على الآخر، أو قد يكون أشطر وأذكى. ولكن الثابت أنه يأخذ النصيب الأكبر من الكعكة.

هذه هى صورة مصغرة من طبقات مصر…

ففى علم الاقتصاد يقسم أى مجتمع إلى خمسة أقسام، لقياس عدالة التوزيع فى المجتمع، وكلما كان القسم الأول (الأكثر فقرا) والأخير (الأكثر غنى) ضئيلين والثلاثة فى الوسط عريضين (أى أشبه بالبيضة) كلما كان المجتمع أكثر عدالة. وكلما كان الأمر أشبه بالهرم، حيث قاعدته عريضة وقمته مدببة، كلما دل ذلك على سوء توزيع الدخل. والأسوأ من أن وضعنا أشبه بالهرم، أنه كالهرم فى ثباته. فإذا كنت من الثلاثة التعساء، فهل لك من أمل فى أن تنتقل بجوار أحد الشقيقين المحظوظين؟ بئس الإجابة بلا. فهى عين انعدام العدالة، عين اليأس.

البحث فى معنى العدالة مفهوم اختلف حوله الفلاسفة. ولكن الإنسانية استقرت على مبادئ مشتركة أعلنتها حقوقا عالمية لكل فرد، ويقاس أداء الحكومات نجاحا أو فشلا بمدى قربها أو بعدها عن تطبيق تلك المبادئ. وإذا كانت سياسات محاربة الفقر أمرا محمودا ولكنها لا تضمن العدالة الاجتماعية، لذا تبقى نتائجها هشة تزيحها أى أزمة اقتصادية طارئة.

وفى الحالة المصرية لا يصعب القول أبدا أن الوضع القائم يكرس التفاوت الطبقى ويكفل انعدام تكافؤ الفرص بين من ولد غنيا ومن ولد فقيرا، ويوطن الجمود الاجتماعى أبدا. فلكم مدرستكم ولى مدرستى، ولكم طبيبكم ولى طبيبى. بل ولكم منتزهكم ولى منتزهى. والقائمة فى ازدياد.

سيقول قائل إن العدالة لا تعنى المساواة. ولكنها كلمة حق يراد بها هنا باطل.

فليست العدالة أن يأخذ نفس الأجر عامل جمع القمامة ومهندس الالكترونيات. ولكن العدل أن يحصل كل من ينتمى لهذا المجتمع مهما كانت مهمته على أجر يغطى احتياجاته الأساسية من مأكل وملبس وتعليم، بغض النظر عن ضآلة أو صعوبة عمله.

كما أنه من العدالة ألا يتجاوز أعلى أجر خمسة ــ إلى سبعة أضعاف أقل أجر.

سيضحك أعضاء الحزب الوطنى مفندين أسبابا لعدم إمكانية تطبيق هذا الشرط الأخير، ولكنه ليس بدعة ولا نكتة. بل هو حقيقة مطبقة فى الدول الأعلى فى مؤشر التنمية البشرية. وهى المثال الذى تحاول سائر الدول اتباع الطريق إليه.

ويقر المحللون الاقتصاديون إن أحد أهم أسباب الانهيار الاقتصادى فى الولايات المتحدة هو أن الاقتصاد الأكبر فى العالم تجاوز عن التفاوت المتزايد بين الدخول، مما ضاعف من أثر الأزمة المالية التى وقعت لديها منذ ما يزيد على عامين. حيث وصل التفاوت بين الأجور الأعلى والأدنى فى الولايات المتحدة قبل الأزمة مباشرة إلى خمسة عشر ضعفا.

وينادى الرئيس الحالى لصندوق النقد الدولى بتطبيق سياسات من شأنها تقليص الفوارق بين الدخول كمنهج للخروج من الكساد. فإلى كم ضعف يصل التفاوت بين الأجور فى مصر داخل كل مؤسسة ــ مصنع أو بنك أو وزارة ــ بل داخل كل عمارة وكل شارع وكل حى وكل قرية؟ لن يفصح أى من المسئولين المصريين عن هذا الرقم. ولكن الأهم من هذا الرقم هو أن الحكومة تدفع باتجاه استمرار هذا الوضع بتكريس سياسات من شأنها توسيع الهوة، أو أقله بقاء الوضع على ما هو عليه.

فإذا عدنا إلى الإخوة الخمسة من بطن مصر، لن نجد أنهم جبلوا على ما بين الإخوة من ود وتواصل. بل تفارقوا وتباغضوا، وبنى كل واحد حوله موانع. أسوار من القواعد، ومن مفردات اللغة، وطريقة المأكل، وطريقة الملبس.

ولن يستطيع أى من الإخوة عبور هذه الموانع فيما بينهم. ليس لأنهم خائبون أو يفتقدون المهارات اللازمة، بل لأن الدولة تخلق حالة من انعدام العدالة الممنهج. فعلى سبيل المثال، يجمع صانعو القرار على أن إصلاح التعليم والصحة لا يمكن تمويلهما إلا إذا تحررت الحكومة من فاتورة دعم الطاقة التى يستفيد منها الغنى أضعافا مضاعفة أكثر من الفقير. ولكن التطبيق متوقف. فالإصلاح على الطريقة التى يطرحونها سيعنى ارتفاع التضخم إلى خمسين فى المائة وهى نسبة كفيلة بالتهام كل الأثر الايجابى على توفير موارد الدولة. بركة يا جامع! فليتجمد الإصلاح.

وماذا عن البدائل؟ ماذا عن سحب الدعم من غير المحتاجين فقط؟ ستجد دائما هناك إجابة واحدة: لا يوجد توافق مجتمعى على ذلك الإصلاح. والحقيقة انه لا توجد موافقة من أصحاب المصالح على أن يضار جزء من هامش أرباحهم.

إليك أنبوبة البوتاجاز والتى يضطر لأن يفتديها المواطن بحياته كى يؤمن الدفء والطعام لأسرته. تدعم الحكومة الفرق بين جنيهين ونصف الجنيه وهو سعر بيع الحكومة لها وبين أربعين جنيها وهو سعر التكلفة للبوتاجاز المستورد. ولكنها تبيعها للفنادق والمطاعم بنفس سعر البيع للمواطن المستحق للدعم، ولم نسمع عن صاحب مصنع مات من اجل أن يحصل على أنبوبة.

وفى الحديث عن إصلاح دعم الأنبوبة الذى يستنزف ما يقرب من ربع إجمالى الدعم الموجه للطاقة، لا أحد من المسئولين يتحدث عن سحب الدعم من تلك المطاعم والفنادق، بل تقنين الكميات المدعومة للجميع من مواطنين ورجال الأعمال.

وإليك أيضا دعم المصانع بالغاز الطبيعى الرخيص والنادر والذى يتكلف ربعا آخرا من إجمالى الدعم الموجه للطاقة. حيث تذهب 80% من الطاقة الموجهة إلى جميع المصانع إلى نحو أربعين مصنعا فقط (أسمدة وأسمنت وحديد وسيراميك وزجاج)، وفقا لدراسة رسمية مقدمة لمجلس الشورى فى 2008. ولك أن تضع قائمة بأسماء المستفيدين محل أسماء المصانع لترى ثقل هذا اللوبى.

كلها أمثلة لانعدام العدالة الاجتماعية، ولو نظرت إلى الضرائب والتأمينات لوجدت مثالا آخر. فقانون الضرائب الجديد الذى فرض عام 2005 قضى بأن يدفع الضرائب أى شخص يقوم بأى عمل مؤقت مقابل أجر. كما يقتطع ضريبة عن أى دخل أو أجر متغير يحصل عليه أى عامل أو موظف، فى حين لا يحصل هؤلاء على تأمين عن كل هذا العمل المؤقت أو الأجر المتغير.

وهكذا، تقتص الحكومة من العاملين أضعافا مضاعفة من الضرائب مقارنة بالقانون القديم للضريبة، حتى من تلك الأغلبية التى يقل دخلها عن خط الفقر. (أى فرد يحصل على أجر شهرى ثابت أو متغير خمسمائة جنيه يخضع للضرائب، بغض النظر عن ظروفه العائلية وكم من الأفراد يعول). ولكنها لا تلزم نفسها أو صاحب عمله بالتأمين الاجتماعى عليه إلا فى حدود جزء ضئيل من دخله.

هناك أسطورة هندية قديمة عن أميرة اشترط والدها أن يجتاز كل من يريد أن يتزوجها موانع ثلاثة تحتاج إلى المهارة والذكاء وحسن التفكير. فلم يجتزها إلا فلاح رقيق الحال ولكنه مثقف وماهر فى عمله. ولكنه رفض فى النهاية الزواج من الأميرة لأنها لا تمتلك نفس صفاته ولم تبال بأن تدهس على عيدان القمح فى أرضه عندما دعاها لزيارته.

كل جزء من تلك القصة لا يمكن أن نجدها فى مصر.

فلن يمنح الملك امتيازات مشروطة بالمهارات والكفاءة. ولا الفلاح مثقف وماهر (لأسباب خارجة عن إرادته). ولن تقبل الأميرة أى زوج من أصل رقيق الحال. وبالتأكيد لن يستطيع الفلاح فرض شروطه على أى شخص أغنى منه.

القصة الهندية أحداثها شيقة وسعيدة على عكس النهاية غير المتوقعة. ولكن القصة هنا نهايتها غير سعيدة لأن القصة نفسها تعيسة.

نُشرت بواسطة

من ناحية أخرى

Egyptian Journalist. Interested in economic policies that make people's life easier, richer and healthier. أنا صحفية من مصر. غير منتمية لأي حزب. أحب أن أرى الأمور بنظارتي وأخشى أن تتلون بلون مدرسة فكرية واحدة. وأحب كل انسان ينتصر للضعيف ويبكي على المقهور أيا كان إنتماوه. يصفني أصدقائي بأني يسارية الهوى بدون أن أدري. وأرد مداعبة لهم كيف أكون يسارية وأنا أحب عددا من رجال الأعمال؟ والحق أني دائما منحازة للطرف الأضعف (حتي في مباريات الكرة) وللحق الإنساني في الحياة السعيدة الآمنة. أتمنى أن يحشرني الله مع الفقراء، إن لم نستطع في الدنيا أن نعدل المائلة فلا يعود هناك فقراء. متفائلة كالأرض، فكما قال فؤاد حداد: الأرض صنعتها الأمل والبشاير.

أضف تعليق